جيل الألفية الثورة .. وإدراك خلل الهوية
د. أسامة أحمد المصطفى – واشنطن

مع تطورات المفاهيم بعد ثورة ديسمبر السودانية التي جاءت امتداداً لثورتي ( أكتوبر 64 وأبريل 85 ) في القرن الماضي ، نحاول هنا قراءة أدب الخلاف والاختلاف في السودان من خلال تسليط الضوء على المشهد الثقافي السوداني العام، كمحرك رئيسي وأساسي لأفكار جميع السياسيين السودانيين ، وفي نفس الوقت عن التمسك بهوية الأمة وتراثها الثقافي والحضاري ، فهي الطريقة الوحيدة الوقائية والفعالة لمقاومة أخطاء الماضي من خلال التفكير الجديد للشباب ، من ناحية ، والتوافق مع رياح التغيير القوية التي تجتاح العالم من ناحية أخرى ، ومواكبة ما يسمى بالاستلاب الثقافي، فقد أصبح جيل الألفية الثالثة بالفعل تحت مظلة العولمة وله تأثيره ، ولم يعد يخشى فكرة الاستلاب الثقافي لأنهم أصبحوا بالفعل جزءًا من النظام العالمي الجديد وربما نموذجً الشباب السوداني في هذه الثورة من متفردين في الإصرار على موقفهم ، لكنهم بقوا بدون قيادة أو هوية منظمة. لذلك ، ظل يستمر الصراع في السودان باتخاذ توجه متصاعد بين أبناء الوطن الواحد ، بقوة ودون مبرر.
الصيغة المثالية لتحقيق الإثراء الثقافي للإنسانية ، وتمكين الثقافة نفسها ، بالإضافة إلى نموها في حد ذاتها ، من أداء وظائفها في تكوين الوعي الجمعي الوطني ، وفي بناء الحياة البشرية وتنميتها وتجميلها ، هو إعطاء الثقافة واقعها وثقلها في مجمل النشاط البشري وأن تكون أحد حقوق الإنسان الأساسية ،من خلال تزويدها بالشروط القانونية والاجتماعية اللازمة التي تضمن الحفاظ عليها وترسيخ أسسها ، وأن يكون هناك حوار مترابط بين العلاقات الثقافية المترابطة في جميع مجالات المعرفة والتعبير، فهل يدرك الجيل الجديد هذا وهل يمكنه التغلب على أخطاء الأجيال السابقة؟ ربما لان وعيهم بان أي ثقافة أو لغة تتعرض للانقراض أو مهددة بالزوال هي خسارة للإنسانية والتراث البشري السوداني ، لأن الوعي البشري يتشكل من خلال البيانات اللغوية أولاً ، ومن هنا يأتي الاختلاف والتنوع في الوعي الوطني ، وهو مصدر ثري للإنسانية .

وفي هذا السياق ، ظل السودان هذا البلد الغني و المتعدد الأعراق والثقافات والأديان يعاني ، وعلى الرغم من أبنائه وعلمائه ومفكريه وانتشاره في جميع أنحاء العالم ، في مختلف مجالات الإبداع البشري والعلمي ، ولا تزال تعاني من صراعات دامية وحروب أهلية منذ أكثر من خمسة عقود. بدأ في جنوب السودان وأضيف إليه بنفس الأطر النظرية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ، وهو ما يعني في أنجح الحالات استمرار القتل والموت. لقد استهلكت هذه الحروب ، ولا تزال ، الكثير من الموارد البشرية والمادية ، وأرهقت شعب السودان الذي يأمل في أن يتمكن من العيش بهدوء في عالم غير متوازن.
وبالعودة إلى التاريخ الحديث بعد استقلال معظم الدول الأفريقية والعربية واستقرارها إلى حد ما في ميزان السياسة والاقتصاد ، أصبحت هذه الدول على وعي بقضايا أكثر فاعلية وتأثيراً وهي قضايا اللغة والثقافة والحضارة والهوية، التي تشكل الصراع الحديث الحقيقي ، والذي يصر الجميعً على القول بنظرية المؤامرة بأن الدول الاستعمارية الأولى اتخذته بديلاً عن الاستعمار السياسي السابق وهي العولمة وبالتأكيد هو العامل الحاسم والسلاح الأكثر فاعلية لتدخله المباشر في تكوين الشخصية وتحديد ملامح وهوية الأمم ، فارتقت بعضها بادراكها للعبة التعامل مع العولمة ومعطياتها.
بينما فشل السودان في إدارة التنوع والبحث عن الذاتية الثقافية ، وهو ما يعني العزلة والانطوائية ، وعدم القدرة على مواكبة معطيات العولمة ،وهو سلوك لا يستحق الثناء إذا لم يستطع السودانيون القدرة على فهم أن التنوع قوة وتميزهم عن الآخرين وثقافتهم ، فإن طريقة العيش وصياغة النموذج الخاص الذي عرفته الشعوب والحضارات الإنسانية منذ فجر التاريخ لم يعد امر سطحي ، كما يراها الكثيرون في السودان ، كلوحة رسم أو تحفة يمكن نقلها من مكان إلى آخر، دون إدراك أنها محتويات الشحنات النفسية والذاتية والبيئية التي يصعب استيرادها أو فصلها عن بيئتها ومشكلاتها المحتملة.
من خلال قراءة التعريف السابق للثقافة وتطبيقه في نموذج بلد مثل السودان الغني بتعدد البيئات الجغرافية والقبائل واللغات واللهجات ، نجد تلك الهوية الثقافية واللغوية في مواجهة النفسية ، الشحنات الذاتية والبيئية تجعل من الصعب للوهلة الأولى التعامل معها ، وحتى إيجاد أرضية مستقرة ومشتركة تكون بمثابة انطلاق للثقافة السودانية جامعة ومعبرة في الوقت نفسه عن الانسان السوداني كله ، مما يحتم ضرورة التعامل بوعي كبير في اتجاه صناعة عجينة الوحدة .
على الرغم من أن اللغة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحضارة والثقافة الإنسانية باعتبارها السجل الرئيسي لجميع حوارات حركة التاريخ في المجتمع ، إلا أنها لا تزال تواجه العديد من المشكلات المعقدة والمتعددة في السودان. حيث نجد فيما يتعلق بالسياسات اللغوية للحكومات منذ الاستقلال أن اللغة العربية أخذت مكانتها في الانتشار وخاصة في التعليم ومثلت اللغة الوطنية حتى تحول التعليم الجامعي إلى اللغة العربية في سبعينيات القرن الماضي خلال القرن الماضي. فترة حكومة أيار ، وتحت هذه المظلة الواسعة لانتشار اللغة العربية ، أصبحت هناك معاناة حقيقية وخسارة تربوية كبيرة للطلاب والمعلمين الذين يعيشون في مناطق التداخل اللغوي ، وهي مناطق يتحدث أهلها أكثر. من لغة واحدة مما يجعلهم منسجمين مع لغات أخرى ك(الإنجليزية) وغيرها لمواصلة تعليمهم وكتاباتهم وتحديداً مثقفي جنوب السودان قبل الانفصال عن الدولة السودانية وهذا ما نخشى أن يتكرر في مناطق أخرى تشبه مناطق جنوب السودان ، دون استثناء أي منطقة بهذا النوع من التداخل في ربوع الوطن .
الأمر الذي يستدعي القول إن عملية التجريد العلمي والأجندة الخفية التي تليها تجد المناخ المناسب لها في ظل الخطاب اللغوي المزدوج في السودان. ولعل من المؤكد أن عدم وضوح الرؤية والأهداف في معالجة مشاكل التعددية اللغوية لاستنباط الفلكلور العظيم لمختلف القبائل والأعراق السودانية وتوحيدها. من الضروري الحرص على مناقشة العوامل المتضمنة في هذه المشكلة ، وهي الجملة الأساسية للفكر ، مع مراعاة التوحيد الحقيقي للغة الوطنية بحيث تظل الخيار الأساسي للجميع دون معاناة. ثم ينتقلون إلى الخيارات التي تحدثنا عنها ، مع الحفاظ على اللغات المحلية الأخرى مثل اللغة النوبية في أقصى شمال السودان ، واللغات الأصلية لأكثر من مائة لغة يتحدث بها أهل السودان. وقبائلهم وضرورة دراستهم وتنميتهم لاحتلال الحيز الثقافي الواسع والملائم في دفع عملية الإثراء الثقافي واللغوي وبناء الشخصية.
إن السودانيين الواعين والمثقفين الذين يدركون هذا الواقع الفريد الذي يضفي على السودان خصوصياته وشكله المميز، متجاوزًا كل أشكال الصراعات المؤلمة وغير المجدية ، يعترف بتعريف الثقافة بأنها جميع الأصول المادية والمعنوية والروحية ، في بالإضافة إلى المعرفة واللغة والمهارات وطرق التفكير وأنماط السلوك ومخزون الخبرات المكتسبة عبر العصور، يعترفون بوجود هذا التفاوت الكثيف كعامل قوة ، وهذا هو إلى حد كبير حالة الجيل الجديد. إنني أؤمن بشدة أن الشباب السوداني من جيل الألفية الثالثة يمكنه تغيير خلل مفاهيم الهوية إذا توفرت لهم الظروف المناسبة.