العنصريون يتقيؤون مفردات نتنة!
د. أسامة أحمد المصطفى – واشنطن

- مفهوم الانتماء للسودانوية إشكالية مزمنة متزامنة .
- اختلاف الأنا (القبلية) مع الانا (السودانية) ازمة ممتدة .
- الشخصية الضعيفة مرهونة بازدراء ذاته وهيمنة العنصرية عليه .
- ركائز النهضة مرتبطة بثالوث الإنسان والمكان والسلام .
- العلمانية و اعتداد الكل بالكل والاستقلال والتكامل هي المخرج .
السودانيون على مر العصور لم يعطوا مفهوم الانتماء حَقَّهُ، ولم يهتموا به أتَمَّ الاهتمام بما يحمل في طياته من أشياء عديدة ظهرت إشكاليات فإنَّ الانتماء هو مفهومٌ يجبُ علينا السباحةُ في سِبْرِ أغواره لمعرفة مرتكزاتهِ، كونه يقوم على مبادئ الاقتناع والإدراك المعنوي والمكاني والوجداني، وكلُّ هذه المفاهيم تشكلُ لنا خيطاً ناظِماً لمعرفة مَاهِيَّته.
ثمة تراكمات تاريخية جعلت من مفهوم الانتماء للسودانوية إشكالية مزمنة متزامنة، وأزمة ممتدة بسبب الانتماء إلى أصول خارج نطاق حدود الدولة السودانية، الأمر الذي يثير النعرات، من هنا ينبغي العمل على نشر وتعزيز ثقافة الانتماء للوطن فعلياً وليس خطابياً، في جميع المجتمعات السودانية، وإحلال الأمن والسلام والاستقرار بين الشعب السوداني كافة واعتماد لغة الحوار والتفاهم .
و بما أن الثقافة والهوية متلازمتان، فلا يمكن الفصل بينهما، ولكل شعب ثقافته الخاصة التي تمثل عنواناً لهويته، وبما أن الثقافة تعني في مفهومها الواسع مجموعة من القيم والمبادئ والأسس التي ينفرد بها شعب أو مجموعة عن غيرها، فكلما زادت خصوصية الثقافة التي تميزها، انعكست هذه الخصوصية على أصحابها
وبالتالي، فإن الثقافة لا تعني بأي شكل من الأشكال الانفصال عن التراث وإنكاره لصالح الأفكار الحداثية، ولا يعني الانغماس في التراث والماضي والهروب من الحاضر والمستقبل وما يحتويه من ثقافات بحجة أنها ثقافات وافدة .
فثقافة الشعوب تعني السمات والخصائص التي تميز شعباً عن آخر وفق مجموعة من الأصول والجذور التاريخية والمعرفية، تجعل لهذا الشعب هوية خاصة في خريطة الثقافة العالمية، وفقاً لذلك أصبح سؤال الهوية أكثر الأسئلة إلحاحاً في الفكر السوداني بعد ثورة ديسمبر الشبابية .
وهو سؤال أزمة عميقة، ولَّدت قلقاً عظيماً، وزادت أزمته ضعف الإعلام في تناول الأمر بموضوعية، وترك للناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي اليد المسيطرة، أثيرت مشكلة الهوية السودانية من جديد وفتحت أفواه العنصريين وبدأوا يتقيؤون مفردات نتنة .

وبات من المتوقع في هذه المرحلة الحاسمة من عمر السودان، أن تتضخم مسألة الهوية إلى حد الانفجار بعد أن أثيرت هذه الأسئلة بين عامة الناس بقوة في ظل غياب النخب، التي هي في حالة من التراجع الفكري والحضاري، وغاصت في عمق نقمة القبلية والعنصرية البغيضة.
وفي السياق ذاته تختلف علاقة الأنا (القبلية) مع الأخرى (السودانية)، وتتخذ عدة مستويات، تحددها عدة أمور، منها: زاوية الرؤية التي ترى فيها الأنا الأخرى، وموقع الأنا فيما يتعلق بالآخر، وموقف الآخر من حيث الهيمنة والسيطرة، والمصالح التي تحكم كلاً منهما، ومساحة الحوار التي يمكن أن تنشأ بينهما، هذا الموقف الذي تكون فيه الأنا في وضع يمنحها الشعور بالتفوق الأفضل والأعظم والأنقى، ويصبح الآخر في هذه الحالة إما عدواً يجب محاربته وتقويضه، أو متآمراً يحاول تدمير صرح البلاد، فليس من المعقول أن نوافق على خطاب من ينادي بالقضاء على فكرة خصوصية الهوية لصالح أفكار العولمة .
كما أنه من غير المعقول الموافقة على خطاب الهوية المتعالي الذي ينظر إلى الآخر بسخرية، ومن الأفضل للمجتمع السوداني أن ينتقد خطاب الهوية، دون أن يخضع لتأثير ديالكتيك الصراع بين الأنا والآخر وديالكتيك الهوية بين الانتماء والتلاشي.
لأن الإنسان الذي يقيّم نفسه بإيجابية هو المتعاون المعطاء بالدرجة الأولى وهو رافض للعنصرية ، وإن قدرته على نكران الذات تعود إلى الحاضنة الاجتماعية الأولى التي تربى فيها، والتي غالباً ما يكون تأثيرها قاطعاً بالنسبة لتكوين شخصيته ، حيث يمكنها صناعة إنسان متعاون مسامح يحترم الجميع مترفع عن نتانة العنصرية.
فإن بناء النفس رحلة طويلة وإن أراد الفرد أن ينجز هذه الرحلة بنجاح فعليه أن يستمر متجهاً نحو بناء سليم للقيم والفكر ومنظومة صياغة المفردات والاستعداد الدائم لتقدير الذات من أجل تقديم الأفضل في الأعمال وغيرها، وغالباً ما يعود هذا النوع من التقييم بسعادة غامرة على من يؤديها تجاه نفسه ودون الحكم على الآخرين ، بالتعالي الأجوف.
فمعظم الأحيان يكتسب المرء سماته من محيطه العائلي والاجتماعي، حيث يكون الإنسان أكثر فهماً لقيمته في بناء المجتمع وفقا لتربيته وما استمدها من مفاهيم (إن كانت عنصرية) فسيكون اناني محدود الأفق قمي مهما ادعي التحضر ، فيما إن كانت تربيته (غير عنصرية) فسيكون أكثر استعداداً للقيام بالتضحية من أجل الآخرين ، هذه هي المزايا التي يتحلى بها الفرد والمجتمع الناجح، إذ يتحلى أفراده بأكثر القيم إيجابية.
وقد يتجه البعض إلى أن يستمد تقديره الذاتي من الآخرين، فيجعل قيمته الذاتية مرتبطة بنوع من مفاهيم عبثية، على سبيل المثال بما لديه من مال، أو إكرام وحب الآخرين له ، وهو من غير شعور يضع نفسه في إطار ضيق وعلى حافة هاوية خطيرة لإسقاط ذاته بمشاع الإخفاق، وهذه ذات ضعيفة ، لأن التقدير والاحترام له ينبع من مصدر خارجي وخارج تحكمه وبالتالي ستكون شخصيته ضعيفة مرهونة بالعنصرية.
حقيقة احترام وتقدير الفرد تنبع من الذات ، فالحياة لا تأتي كما يشاء. قد يفقد الشخص الذي يعتمد على الآخرين في تقديره لذاته يومًا ما هذه العوامل الخارجية التي يستمد منها قيمته وتقديره ، وبالتالي يفقد معهم نفسه وسيطرته على مفرداته. أما بالنسبة للأشخاص الواثقين من أنفسهم ، فستجدهم سريعًا في الاندماج والانتماء إلى أي مكان يتواجدون فيه ، ولديهم الكفاءة ، والشعور بقيمتهم وقدرتهم على مواجهة أي تحد .
وعندما يجعل الشخص تقييمه لنفسه عنوانه كالعملة الصعبة يكون ضمن أولئك الذين هم أكثر قدرة على السيطرة على أنفسهم والتحكم في حياتهم، وهم الأكثر إنتاجية، والأكثر سعادة ورضى، وليس بالضرورة أن يعتقدوا أنهم الأفضل، ولكنهم متفائلون واقعيون، محبون للجميع وأقوياء في مواجهة العثرات .
والاختبار الحقيقي لتقدير الذات هو أن يفقد المرء كل ما يملك، وتأتي كل الأمور خلاف ما يريد، ومع ذلك لا يزال يعتدّ بنفسه ويقدرها، ويختار لها الطريق المحفز لبناء التقييم الذاتي من الثقة بالنفس ، في هذا السياق نجد أن الوعي الذي يمثل الخلاصة في الإنجاز الثقافي والعلمي يجب ان يلعب دوراً مهماً في صنع الحضارة في السودان، والتي تقوم على ثلاث ركائز مهمة مرتبطة بثالوث الإنسان والمكان والسلام .
بالسودانيين مدعوون الاعتراف بالعلاقة المتوازنة التي تحفظ عناصر عدة، أهمها: اعتداد الكل بالكل والاستقلال والتكامل، عبر صور الانتماء الوطني كافة فلا يلغي العام فيها الخاص ولا يتنكر له، بمعنى أن الانتماء الإنساني ورابطة الأخوة، لا يتعارضان مع الانتماء الوطني والقومي للشعب والأمة.