ثقافةمنوعات

“سكة ضياع” النمطية ومسار الابداع!

د. اسامة أحمد المصطفى – واشنطن

من دواعي سروري مشاهدة المسلسل السوداني “سكة ضياع ” وسط مجموعة من السودانيين الذين أثار انتباههم واهتمامهم هذا المسلسل بشكل كبير في واشنطن العاصمة الامريكية واصبح موضوع حوار حول الدراما السودانية فسكة ضياع البيئة (اللامعقولية) التي تم الاعتماد عليها لا توظف في النص منفصلة، جانب متخيل يأخذ خيطاً في القصة بجانب الخيوط والمحركات الأخرى الواقعية أو الاجتماعية ، كما أنها ليست بنية تناصيه، ضفرها السيناريو مع محاور النص ، تندمج الخيوط الواقعية والاجتماعية في بنية لا يظهر الفصل بين فوق الطبيعي والطبيعي، بين الغرائبي الخارق وقوانين العقل في بناء العوالم الحكاية والدلالية والمعرفية، الواقعي والمتخيل، المادي والروحي، الألفة والغرابة ، الطبيعي والشاذ، الزهد والطمع، اليأس والتمرد، والثورة والرضوخ، الموروث والمتغير، تتفاعل جميعها فيما بينها وتتداخل مشيدة عالماً متكاملاً يحمل أسئلة وجودية أزلية، ورفضاً واعتراضاً على أوضاع مجتمعية مستعينة ببنية اللامعقول الرمزية. من رؤية فنية واضحة ، ولكن منفتحة على آفاق واسعة ، يبدأ نص مسلسل “سكة ضياع ” لكاتب السيناريو .

بهذا النص ، يمكنك الطيران في عوالم متناقضة ، حياة خلقها “خيال علمي” معني حلم الممكن ، وليس الموضوع في ديالكتيك الحرية والتحرير إلى آفاق العطاء من تحويل المعاناة إلى آفاق إيجابية بحيث تتحول الأعماق المظلمة إلى فضاءات مضيئة ، قادرة على دمج العلاقات بين الحقيقي وغير الواقعي ، بين الواقع والحلم ، عوالم تخفف الحدود وتجعلها في حالة اندماج متناغم ، قد نشعر بالغرابة ، ولكن بالتأكيد سيكون لدينا شغف ، عالم من العجائب صنع من خلال تقديم أفكار متمردة في تقنيات شكلية مميزة يعتد كاتب السيناريو او مجموعة ورشة الكتابة والمخرج بمفهوم “الخلق الفني” الذي يلامس الواقع بلسعات نارهم، لتأخذ النور والوهج ثم ترتفع بهما لتطال رأسه السماء، يبرعون في بناء الروابط في صياغة عناصر المسلسل وتركيبتها على نسق آخر ، مستعينين بملكات خيال منطلقة ، فتخلق عوالم مغايرة ، قادرة على خلق الصور، وهو تحليق في واقع ممزوج بالفانتازيا ، حيث يتجلى الخلق إبداعاً وليس إعادة إنتاج ، ولا يعنى هذا قطيعة مع الواقع بل هو طرح إبداعي يعيد رؤية الواقع ويعيد تفسيره ترى الإبداع رؤية وتشكيلاً فعل مواكبة ومجاوزة و سرد سبق ولحق ، في معالجة لتناقضات لاقتفاء نهج وضرورة المرور بمراحل فكرية حتمية تدور في فلكها وهي دوامة العبودية الفكرية والحرية المطلقة في رفض الواقع و تأطير الأنثى في ظل تقاليد و ثقافة منكفئة ، تتعامل مع المرأة وفق حقائق اختيارية بين مواكبة للعولمة وخضوع لمورثات قميئة . جاء قصة مسلسل سكة ضياع منطلقة من ثقافة متسعة ودراية راسخة بالموروث المحلي ، و قدرات منفتحة من وعي عوالمي اعتمد الكتاب فيها على منطق ما لا يقال في عمق المقال ، تشكلت لديهم رؤية فنية خاصة للإبداع ، لا متأثرة أو مقلدة بل مبدعة مبتكرة في سياق الدراما السودانية الجديدة ، مغموسة حتى النخاع في العناصر الخاصة لثقافة ومعطيات مجتمعهم والمسكوت عنه في خيال واقعي ” خلقت هذه الإطلالات الواعية المثقفة ذهنية خيالية تجمع جرأة الأفكار، وتناسبها مع الواقع لمعطيات ومجريات الأحداث والشخوص التي تبدو متناثرة كرتق في معصم “عبادي أحمد الجقر” الشخصية المحورية تدورها كحالة النجوم في أفلاكها تحتفى المنتج الدكتور جلال حامد بالجوانب الميتافيزيقية وعوالم التعمق في الجانب المعرفي للمرأة ، وتبصر بهما مناطق إضاءات فنية تبعدها عن مركزية العقل البشرى أو منطقه الصارم بمسافة تتيح له أن يغازلها بتشكيلات فنية ومنطق معرفي آخر، تتابع جيئة وذهاباً بين الخيال والعقل، فعل مراوحة ومزاوجة واشتباك وقفز، وكلها رؤى وتقنيات في سياق المحتوى تصنع عوالم من الجدل الثري ، ويقع نص ” سكة ضياع “ في محيط تعريف الفانتازيا الذهنية ، أي القدرة على تجلية تقاطع الواقع اللاواقعي . يرتكز السيناريو على ثقافات ومفاهيم مستمدة من موروثات متنوعة تحتفى بعوالم المخفي من قضايا المجتمع السوداني ، وتتكئ الأحلام وتفسيرها ، ومن الموروثات الشعبوية والملحمية دون أن تذكرها بمفرداتها ، تتعمد استعارة مفردة ” تبدر في براعة خلق وإبداع ” مواقع خيالية تتطابق مع تترادف مع اللغة العامة للحديث من الواقع المحلي ” في تفاصيل محتواها لدلالات خصوصية تجعل المشاهد ، ينشده ويندهش بل ويتلذذ وهو يبحث عن تلك المفردات في الواقع ، هذه آليات تشكل بامتياز ما يطلق عليه تيار الواقعية السحرية في المحتوى السردي للسيناريو . ويؤلف من المعطيات السابقة مادة فنية ثرية تشكّلت بتنوع ملحوظ في نصيه ” سكة ضياع “ وعالمه شديد الخصوصية والتنوع .

في نص ” سكة ضياع “ يخلَّق الكاتب شخصيات “مثل عبادي ” الذي سأم وضاق بكل مظاهر الحياة التي شوهت في تربيته “في مجتمعه المخفي “ استشراء الظلم بالتحديد ظلم المشرد الفقير ، بعد أن تحكم بمقاديرها شبكة منظمة من المفسدين مثل أبو الدبش ومدّعي الإصلاح الاقتصادي يصَّنعون مفتاحاً يغلقون به سمع الإنسان مثل رجل الاعمال ( عوض كلس) الذي جسد دوره منتج المسلسل جلال حامد ، يتطور الأمر لديه وتصبح هناك مفاتيح تغلق البصر واللسان فيما لم ترتضي رشا أن تخضع للقيود الاجتماعية ، فهي صبية وفر لها أهلها قسط من الحرية خالفت بعض الشيء منزلها الذي أصبح كمقبرة كبرى لها حسب اعتقادها تعرى الموروث الثقافي الخاص بالمرأة في مجتمعات تحكمها ثقافة ذكورية شوهت تكوين المرأة ذاته . بعيدا عن الحديث عن الإخراج وبعض الإخفاقات التي ظهرت جليا ، يعتمد السيناريو على فكرة واقعية في ذهنية فنتازيَة وليدة التجاوز، وتوظف من أجل تنميتها الموروثات الثقافية المتنوعة بما يتسق مع العالم الدرامي لكل شخص من شخوص المسلسل وكل أقصوصة لابطال وبطلات المسلسل في سرديات ممازجة بين الملهاة والمأساة ، خلف الجدران ، و تتكئ على بنات أفكار الخيال الذى يقع على الواقع ، تسألها كاتب السيناريو ويضعها تحت عدسات ذات أبعاد مبتكرة إن كان تم توظيفها باحترافية اعلي ، لتخلق صوراً جديدة للعالم المخفي ، تفسره تحت معطيات وأحداث وأفكار غير معهودة ، بالرغم من بعض الإخفاقات الاخراجية ، وهي بالطبع بسبب حداثة المخرج في إنتاج يمكن ان يوصف بانه متعدد الا انه استطاع ان يقدم نفسه وهو موعود بمستقبل من النجاحات حسب تقديرنا . اللافت للنظر أن بمقدور كاتب السيناريو صناعة إبداعية روائية ثقافية متعددة العناصر، واشتغاله بعناية فائقة، ممازجة بين عناصرها رغم أن من وهلة ينتاب المشاهد شعور أن هناك انفصالاً ما ، ولكن سرعان ما تسوقه فكرة المزج بين اللامعقول والعالم الواقعي الذي يتعاطى معه ويوفر تشكيلة النصي ادوات تكنيكية وآليات تكوين على نحو مميز. ” سكة ضياع “ تتفاخر عوالم اللاوعي لتنطلق قوى الكهف العميق للباطن النفسي الإنساني فتخلق حالة توازي بين الظاهر والباطن حينما تتلاشى “الشخوص في الممثلين الذين أتقنوا التقمص ” الشخصيات المحورية بين الحلم والعالم الواقعي تارة وبين الخيالي الموازي تارة بنيات الوحدات السردية في السيناريو ” سكة ضياع ، كأنها محض رسوم مصائر خارجية مبهمة الترابط و الدلالية المصيرية في علاقاتها و خطابها و أنساقها الملفوظة المجهولة و المظهرة الهوية المضمونة ، أي أنها تبقى غيبية المعنى و الدلالة ، بل انها تبدو أحيانا نوعا ما من الطوباوية ، أو أنها شكلا من اشكال الامكان أو اللازمن أو اللا سرد أو اللاوجود ، و في درجات قصوى من الأبعاد المتمركزة في مشاهد هلامية ” لا هي واقعية ولا هي خيالية “، يصغرها السيناريو بالمنظور الاندماجي البؤري فى تمركز ” الفكرة” بؤرة النص متخيلة في فضاءات اللا متوقع و في صورة كثافات غير مرئية بالمؤشرات المجردة منظورا و تلفظا و حضورا و قدرا و تسجيلا و عنوانا .

و زيادة على كل هذا تظل عناصر السرد في ” سكة ضياع “ من زمان و مكان و شخصيات في معالم هذا الأجناسي الروائي ، خاضعة لمستوى تقنين خاص ، يمكن ان نسميه دائما بالصياغة المعمولة ، التي تنقلنا من مستوى المحسوس و الحضور الى مستوى المجرد و ما وراء مستوى المرئي الى مستوى اللامرئي ، إذ تتحول الشخوص الى كثافات محسوسة غير ملموسة حيث تتحرك في فضاء اللامرئي ، و مستوى ما ورائية المعنى الظاهر. و تكمن اهمية هذا الصوغ الدرامي “المحور و الهوية ” ، في كونه يبث في النسيج النصي السردي ثمة تصويرية حكائية تصنع لذاتها ضربا من ضروب التخييل الدلالي ، الذي يستقطب التفريد و شعرية الستار و المجهول التغريبي ، بحكم أنبيائه على وساطات دلالية ورمزية ” متنوعة في تشكيلات الشخوص ” تنقل عناصره من مستوى محاورات الشواهد الى مستوى القرائن الاستعارية و الفكر المجرد . أعتقد أن هناك بعض القضايا الفكرية التي تستمر في نص ” سكة ضياع “ لم تحسم ولكنها تتحدد تباعاً في السياق الضمني للمسلسل ، ربما المخرج وكاتب السيناريو كان لا يزل في مرحلة من احتدام الصراع فيما يختص ببعض المقولات ، والرغبة في تفكيكها، دون الخوض فيما يبدو مقدساً وهو معنياً تفكيك المقولات، و خلخلتها والنيل منها برشق أحد سهام فكره أو تصوراته فيها ، وأتصور أن المسلسل يشير إلى الجانب الفني في الموروث لا الفكري. على مستوى آخر وفى كثير من تقنيات السرد تتكئ ” كاتب السيناريو والمخرج” على المقولات “الواقعية” وهي ما تجمع عناصر الفكرة المحورية المتخيلة بالنص و لم تدخل في براثن تفكيك المقولات الاجتماعية ودحضها فكرياً، في تجسيد موقف ينبئ عن حالة من الجدل المستمر بين ما يستقر بوجدان شخوص المسلسل وثقافتهم التي تراكمت وشكَّلت في لا وعيهم العميق، بين الرؤية الفكرية وتشكيلها في سياق المسلسل ، ولهذا الجدل الدائر بين الفكر وآليات التشكيل أثراً يبدو المكان في نص ” سكة ضياع “ بينياً ملتبساً، فالمكان في المسلسل ينحو إلى داخل الشخوص، إلى كهوفهم الخاصة التي تكونت أخاديد وملامحها، ظلمتها وإضاءتها من تاريخ نفسي اجتماعي مركب، المكان غير معنى بالعالم الخارجي إلا بحسبانه امتداداً لمعوقات الداخل البشرى. يلح المسلسل على الفكرة التي سيطرت عليه والتي ترفضه جملة وتفصيلا ويعمل على إبرازها باستمرار كشفها وتعريتها ألا وهى ” قهر المجتمع للضعيف ” يحظى نص ” سكة ضياع “ بلغة جارية منسابة ، رغم موضوعاتها المتخيلة المسقطة على الواقع أو الواقعية المغموسة في الخيال ، وتعبيراتها بين متكلفة مصنوعة وأخرى عفوية وتتنوع هذه اللغة تتسق مع لغة شخوصه برغم أن النص يقوم على سارد فوقى في مجمله ، يتخلله أصوات ضمنية يتنقل سرد النص من خلالها ، تنتقل لغة الحوار إلى لهجات مبتكرة ، حيث لعب نص الحواد على أوتار لغة نفسية داخلية تكتب من خلال استبطان الأعين ، والمشاعر لتتحول إلى سرد منطوق يتخير مسلسل “سكة ضياع” في رفض النمطية في مسار الإبداع من خلال مسلسل ” سكة ضياع “ قدم المنتج الدكتور جلال حامد داوود مع كاتب السيناريو المخرج نموذجا لقصة مسلسل ذات خصوصية عالية الحس الإنساني ، القضية فيها واضحة ليست محايدة في طرحها المطالبة بحقوق الناس ، مع وعي بأن تُمارس ما يتسنى ويتيسر لهم بشكل مطلق من الحرية دون انتظار ان بمنحها احد ذلك ، تجسد تعقيدات مجتمعاتها في أطرها المختلفة ، فهم مجموعة أصحاب مشروع جاد و متجدد و متمرد ، يناسب مع جديتهم وتجددهم وتمردهم ، و بهذا المسلسل يضيفون قيمة فنية وفكرية مميزة للدراما السودانية الجديدة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى