السودان .. خطاب الكراهية وضبابية المستقبل !
د. أسامة أحمد المصطفى – واشنطن

ما لا يقال في الشأن السوداني، أن الحلم متداخل ولا يختلف عن الواقع من حيث عدم الانسجام والاتساق والوضوح، لأن نمط اللبس متأصل في هذه الخصائص التي تتلبد بها الحقيقة، لكن من الناحية المنطقية، لا يوجد ما يمنع الافتراض بأن واقع السودان يتكون من حلم طويل غير متسق يتضمن أحلاماً متقطعة تتميز بحالتين من التناقض وعدم الاتساق .
والاعتقاد بإمكانية إثبات الواقع الموضوعي العام من خلال الدليل الاستقرائي يشير في حد ذاته إلى وجود واقع جماعي منفصل في هذا الوطن المكلوم ، لكن هذا الأسلوب يتعارض حقيقة مع وجود احتمال لا يمكن إنكاره، أي دليل سواء من حيث العقل أو الاستقراء ، هو افتراض لا يمكن توقعه في الحالة السودانية ، مع خطاب الكراهية القاتم الذي يسوق مستقبل البلاد الي ضبابية .
فما يمرُّ به المشهد من أحداث مؤلمة متعددة تؤكد ضبابية المستقبل هذه، وهوما ينسجم مع الاعتقاد بأن الإدراك لا يساعد المراقب على رؤية الحقيقة كما هي، وهذا ما يبدد الأحلام، حيث إن الفكر الاستراتيجي غير موجود وفي حالة سبات فلا دليل للحقائق كما هي ، وقد يصوّر ذلك بمثل ما يحدث في إدراك الشعلة الجوالة، حيث تحدث في عين الرائي دائرة، ليست حقيقة ، عليه تكمن المعضلة في حقيقة أن معظم القوى السياسية تتعامل مع الأمور وكأنها موضوعة في الخارج، وقد يتساءل المتأملون عن حقيقة الأمر، سواء كان حلماً أم حقيقة أم انتهاكاً .
هكذا نرى أن الاستدلال على الواقع الموضوعي مستحيل في الشأن السوداني، رغم أن اليقين به متاح وجداناً، مثلما نكون على يقين من ضرورة بعض المبادئ العقلية غير المنطقية، كمبدأ السببية العامة، وكون الشيء الواحد لا يمكن أن يكون في أكثر من مكان في الوقت نفسه، أو أن يكون شيئان في ذات المكان الواحد في الآن نفسه، إذ ليس هناك ما يؤكد أن الماضي قد نجح، فيما آلام حاضر ما بعد ثورة ديسمبر مستمرة .
في سياق هذا الافتراض، إذا قبلنا حجة أن هناك بصيص أمل في الحاضر في شأن هذا البلد، سيشكل هذا أساساً للبناء الاستقرائي لمعرفة المستقبل على افتراض أن التاريخ الحديث له كان به إيجابيات، لكن هذا يتعارض مع إفرازات أكثر من 5 عقود، بذكريات معظمها مؤلمة وبالتالي لا يمكن ترجيح موضوعية هذه الذكريات وانعكاساتها الإيجابية في الحاضر والمستقبل، إلا إذا تغير نمط التعامل مع كل الأشياء .
وفي هذا السياق من خلال التعمق في منطق الغموض البشري في الانسان السوداني ومكوناته، والتعمق في سيكولوجية الثورة الفكرية التي كشفت هذا الغموض ، قد ييأس العقل في البحث عن القدرة على التمرد ورفض الاستسلام، لمجرد محاولة أن يكون الفرد إنساناً منتميا لبلاده بكل معاني وجودية الكلمة، في وطن أصبح جحيماً غير متسامح بمزيد من الوحشية على طريقة منطق «الثنائية ضد الآخر» و«الظلم المتعدد القائم»، على المستوى النظري والفكري والتشرذم .
حيث أصبح الجميع يمارس النفاق الفكري ، ويرفضون اللاإنسانية كفكرة، ويقبلونها كفعل بعيون مغلقة، و المشكلة بالتحديد أن الاوضاع الحديثة قد وعدت الشعب السوداني بأن كل آلامه ستنتهي، بل ستحقق له أقصى درجات التقدم والسعادة القصوى، ومع ذلك فشل هذا الوعد ولكن لا يزال الإنسان السوداني يعتقد أن اهدافه ستتحقق .

فيما لا يزال النخب المعاصرة سياسية كانت ام عسكرية يرون أن الأنانية هي حيوية السعي وراء المصلحة الشخصية والجشع، وهما من الخصائص التي تولدها جميع الأحزاب لإدارة شؤونها، إيماناً منها بأنها تؤدي إلى نجاحها .
وهكذا أصبح السودانيون نسخاً متطابقة، فلا تبحث عن اختلاف في طريقة عيشهم و رؤيتهم للأشياء ، ولبعضهم البعض ، ولا يمارسون طقوساً تلقائية من الفرح أو الحزن، فقد فقدوا رسالة الحب على الطريق، ورفعوا راية الصراع والتناحر في كل ركن من أركان البلاد، فقد تبنوا ثقافة صناعة الموت حتى تحول السودان إلى جحيم مقفر لشعبه .
دون أن يدرك الجميع أن الوعي هو عدم ارتكاب أخطاء استراتيجية فيما يتعلق بالاهتمام بتفاصيل الاحتياجات الإنسانية الملحة ، وتعظيم القواسم المشتركة التي تساعد على جعل تقارب وجهات النظر هدفًا رئيسيًا ويجب أن يكون المرساة .
ومن خلال البحث في أعماق معرفة الشخصية السودانية الحالية نجد أن الوطن يطلب منه أن يكون إنسانا موافق الوطنية ومبادئها التي تنبثق من عالم الفضيلة دون أن يتنازل عن حقه لنفسه ، مع إدراك أن السودان بأمس الحاجة إلى الانسجام والسلام ، لطمأنة الناس بدفء الكلام وأفراد فضاءات الانسجام .
وفي هذا السياق نجد أن الاهتمام بتقديم مبادرات بتطوير برنامج عمل استراتيجي يقوم على إقامة علاقات قوية ومستمرة بين كافة التيارات السياسية ولجان المقاومة بكافة أسمائها ، والكيانات الاجتماعية ، سيسهم في استقطاب ما يحتاجه السودان في حلته الجديدة للخروج من نفق الأزمات ، عبر شراكات استراتيجية بين أهله في بمختلف طوائف وفي مختلف المجالات ، التي ستؤدي إلى جني ثمار الثورة من الجنة المنشودة ، وبالتالي تختفي ضبابية المستقبل ، ولكن يبقى السؤال: هل يرفض الجميع خطاب الكراهية مثل الذي استفحل في ( الكلوبهاوس)؟ وهل يرتقون إلى روح الوطنية ،وانتماء الكل للكل ؟.. هذا ما نرجوه .