ثقافةمنوعات

سماهاني رائحة القرنفل في ازمنة (الحب ،الموت ،الثورة) سرديات ما كان وكائن وسيكون.

أحمد يعقوب

(إن فتح الارض غالباً ما يعني انتزاعها من أولئك الذين لهم بشرة مختلفة عن بشرتنا أو أنوف أكثر تسطيحاً بقليل من أنوفنا، ليس عملاً جميلاً حين تتأمله بامعان؛ وليس ثمة ما يشفع له ويمنحه الخلاص سوى الفكرة ذاتها؛ فكرة كامنة وراءه لا ذريعة عاطفية بل فكرة و إيمان لا تشوبه الأنانية بالفكرة ، التي هي شئ بوسعك أن تقيمه نصياً وتنحني أمامه مبجلاً، وتقدم له القرابين)
جوزيف كونراد-قلب الظلام.

(١) توطئة
أظن أنه بالإمكان اجتراح طريقة مُغايرة تماماً لقراءة النّصوص التي تدخل في إطار ما اصطلح عليه بروايات(التّخيل التّأريخي)قراءة ماخلف النّص ما يريد أن يحكيه الرّاوي بطريقة تُثير فيك شهوة الركض خلف (اللذة) الممنوحة للنّص لفضاء مسكوت عنه تأريخيا؛ ولكنه يخاطب قضايا ماثلة للعيان في وقتنا الراهن، وفي الآن نفسه القفز فوق ثيمات النّص لقراءة واقع انثربولوجي (لأنسنة ) الادب،مُتخطين بطبيعة الحال لبراديغم النّقد ومنهجيته ،من أجل تفكيك تكنيك العمل الروائي وصوره الجمالية أولاً ؛ واستعداده لفتح باب التأويل لقراءة فيها جانب من التناص السردي ،وهي قراءة منتجة في السياق السردي الجديد ، القراءة التي تألب العقل .
الرواية الناهضة لتوها كفقمة البحر من دار نشر( مسكيلياني) والتي عبرت كقوس قزح هي نصوص إنسانية وبالتالي هو نصنا. النّص الممتد على بحر ثلاثمئة وخمس وثلاثون صفحة هي ملحمة بامتياز ، انه سرد ونص مكتوب على كل البحور بحر السّلطة ،الجّنس، الحب الموت، الثّورة الخصي الذهني في المقام الاول ثم العضوي بحر الفساد الرّزيلة وبحور فضائية ارضية .

(٢)
قال سوينكا، : «لن نقدر على أن ننقذ أفريقيا. لكن، أحسن شيء بالنسبة للروائي، في أي دولة، وبأي لغة، هو أنه يحكي روايات. يصف ما حدث، ولا يقدم أجوبة أو حلولا». وأضاف: «ربما توقظ رواية ضمير شخص، وربما توقظ روايات ضمائر أشخاص. إنها مهمة طويلة المدى).

مُهمة الرّواي ليست أرخنة الفعل الانساني وتبويبه فتلك مهمة المؤرخين. مما يطرح مُشكلة كتابة التأريخ، وأرخنة الوضع السائد، مهمة الراوي حسب اعتقادي اثارة أسئلة عويصة ومثيرة حول الانسان نفسه مسائلاً له في ما وراء علاقات القرابة والسّلطة ورؤس الاموال الرمزية ومحاوراً له في عمق عن كينونته وجوهره ونابشاً عن الممنوع والممتنع ومتناسياً في الآن نفسه عن عمد حول صحة الوقائع التي يكتب عنها فاتحاً باب التأويل على مصراعيه لأكثر من قراءة ، وقارئاً الأسطورة كما تشتهي شخصياته أن ترويها .

في السّياق السّردي لبركة ساكن فتحت كُوى الخيال على كل الاحتمالات. إن الخيال كالنّبتات التي تُثير الرّؤى والتهيؤات.
الاسئلة العميقة التي طرحتها الرواية تمس أغوار النفس البشرية؛ حيث تثير مفاهيم من شاكلة الخوف، والرهبة أمام جبروت الانسان نفسه؛ حينما يركبه شيطان السلطة؛ اضافة إلى تثوير قضايا عميقة الصلة بالكيان الوجودي للإنسانية وجوهرها (الحب ،الكره،الفضيلة ،الرزيلة) والإنعتاق من وهم الأنا العُليا إلى التفكير في المجتمع والثورة. تتبطّن منظُومات بركة ساكن حول الطّبقات المُهمشة والمقهورة والجانب الإنساني.

(3)
ثمة ارتباط وشائجي وقوي ما بين شخصية السّلطان والجنجويد، ففي (مسيح دارفور) عندما هاجم الجنجويد قرية خربتي وقتلوا ونكّلوا بمن فيها سألتهم عجوزاً ألا تخافون الله؟ فأجاب أحد الجنجويد بانهم: قتلو الله قبل اسبوعين في وادي هور ! وهي اجابة تكشف عن أن الجنجويد كائنات لا تعرف نفسها ناهيك عن خالقها ،على عكس السّلطان الذي باركه الرّب مؤخراً بعد ان انتسب إلى الملك سليمان وأصدر مرسوماً بذلك، أنه جنجويد انغوجا (سوف اتناول هذه الجزئية في الجزء الثاني).

لعل من أكثر السّمات الأسلوبية اللّافتة في رواية ( سماهاني ) هو أنها تنْبني على هيئة تقديمات و تأخيرات لمسار صناعة مصائر الشّخوص الروائية في الأحداث .

فالرواية تجعل من علامات مصائر الشخوص كمقدمات جاءت تضمينية موزعة في رحاب فقرات الفصول الأولى من حكي السرد؛ كما و هنالك العديد من هذه الحالات في الرواية ، التي حلت كتضمينات داخل فقرات فصولية مستقلة بذاتها لاحقا . الأمر الذي جعل صيغة الأحداث تنمو ، و كأنها غير مقيدة بصياغة خطية زمنية تماماً. أن البناء الزمني / الاستباقي ، في رواية ( سماهاني ) ما كان يشكل حركة زمنية تحدث داخل منظومة الاسترجاع . إذ أننا نُعاين مدى استباقية السّارد ، أثناء مراجعاته الورائية أحداثاً تبدو متقدمة على مستوى النقطة الزمنية ، التي وصل إليها السرد في الرواية . و هذا ما نلاحظه في مواطن عديدة في فصول النص . و الجدير بالذكر أن هذه الدلالة الاستباقية في سرد الاحداث بما أنها تقع داخل حافزية زمنية مركزة ، إلا أنها في الوقت نفسه تبدو حالة تفارقية و مهيمنات نمو الزمن البؤروي في مدار واقعة موضوعة الرواية . و الاستباق و شرائطه في محكيات رواية ( سماهاني) منه ما كان يشكل فاصلة زمنية ومكانية خاصة وان المكان لاينفصل عن الزمان.
.
(4)

في تناص تاريخي بديع يرسم الروائي بركة ساكن لوحة عن الحياة في جزيرة زنجبار ، وحينما يسرج مروياته ذات التخييل التاريخي تتبطن منظوماته في اطار الاكتناه والاستباق الداخلي والخارجي وقراءة أعماق النفس الانسانية .

الرواية التي صورت الحياة في انغوجا ، حيث يحكمها السلطان بقوة مطلقة وقبضة على كل المفاصل الحياتية ويعيش في ترف باذخ بامتلاكه للجواري والغلمان، ويقيم على شئون حياته الخاصة جدا مثل الشؤن الايلاجية وغسل الشرج بعد الانتهاء من المراسم الخرائية عبد مخصي. استطاع بركة ساكن رسم صورة لشخصية السلطان تشابه صور كل الديكتاتورين المعاصرين ، من اكتناز للجسد والغطرسة ، خواء العقل ، فساد البصيرة ، البذخ المترف ؛ في حين يعيش عامة الشعب من فتات الموائد السلطانية. السلطان الذي كان بمثابة الرب في امتلاكه لكل الاشياء في الجزيرة حيث أعلنها صراحة في مونولوج طويل وادّعى أن السّماء أيضاً ملكه عدا الرب الذي يقيم فيها! لم يتخيل أن الثورة التي فاجأته اضافة إلى تكالب الانجليز ومطامع الفرنسيين سوف تقتلع جذوره البوهيمية اقتلاعاً كاملاّ وتبقيه كنسر قل؟مت أظافره.
(5)
حينما بدأ الانجليز التّفاوض الفعلي لاستلام الجزيرة عن طريق فوهات المدافع ودك قصور السلطان المتناثرةثم التفكير في تحرير العبيد ، كان السّلطان؛ يحتمي بالسّجن الذي أُنشا خصيصاً لمعاقبة اؤلئك العاصين (السجن الذي لايعرفه) . يرسم الروائي وجهاً مغايراً للسجن: حيث أن أفعال الانسان هي السجن الذي سوف ينال فيها القصاص حسب أفعاله وهو مالاقاه السّلطان حيث واجه الخصي الذي كان يمارسه على العبيد باستمتاع،دُكّت اعضاءه الجنسية وتم خصيه متنازلاً عن كماله الربوبي الذي وهن بعد الثورة وتحرر العبيد واللّوطين وكل السّبايا ، حيث فكّكت الرواية في هيكلها السّردي مفهوم الانسان المتسلط وعاقبة أفعاله.

الكاتب/احمد يعقوب


(6)
الاميرة في تمام عريها:-

الأميرة التي باركها الرب مؤخرا ،عاشت طفولة معذّبة حيثُ توفيت والدتها وقامت برعايتها مربيتها الهندية؛ ثم اوكلت المهمة إلى عبدها سُندس المخصي. قامت علاقة خاصة جداً بين جسد الأميرة التي تعيش في أقصى درجات البوهيمية وفي ترفٍ مُمل جداً والتي لاتفعل أي شئ حتى مهمة غسل أعضاءها التّناسلية بعد الفراغ من قضاء حاجتها وعبدهاسندس.
تكشف الرّواية عن نشأة الاميرة واشكالياتها النّفسية في غوصٍ عميق نحو الذّات المبتورة والتي بدأت بختانها الفرعوني وارتباط الوشائج بينها وسندس المخصي هو الآخر والمبتور من فضاءه القبائلي والاجتماعي إلى فضاءات القصر. الأميرة التي تزوجت زير نساء واستخدمت ساحرة لقتل زوجها والتي وجدت لذة الجنس الذي خبا بعد سفر الزوج وموته، واتّقد أكثر حينما اكتشف سندس أو بالأحرى قامت علاقة وثيقة الصلة بين جسد الأميرة وسندس الأمر الذي حدا بعبدها إلى اقناع نفسه بضرورة استعادة عضوه المبتور من كهف الرب ، بعد اقتحام القصر من قبل الثوار اقنع سندس الأميرة بالفرار معه إلى البر الافريقي حيث الحياة مختلفة تماما ، ضجّ الحنين داخل عقل الاميرة بالرجوع إلى القصر الذي أصبح الانجليز يديرون شؤنهم من داخله، هنا تظهر الدراماتيكية في الأحداث واسلوب الإنتقال السلس نحو الثأر المدفون في عمق ذات الرجل الذي ارضعته الكلاب، حيث قتل السلطان أمه واغتصبها؛ يدخل الرجل في حوار مع الأميرة إلى مرحلة أن المنتقم ليس له وازع كما ان (المحب ليس له وازع). تندغم أهواء الرجل وتختلج امكانيات الانتقام باستدعاء الصورة المخيالية للفناء الذي واجهته أمه ويبدأ في تنفيذ اغتصاب الأميرة وقتلها مُبرءاً إياها من السلوك الحيواني لوالدها ومذكراً لها بعقدة الثأر التي تتّقد في دواخله ووعده لنفسه ولأمه بالاقتصاص آجلاً إن عاجلاً.
في النص الأخير تتعمق الملهاة والمأساة ويسترد النص مسرحيته المرئية والتخيلية ويحبك الصورة الاجتماعية لعصر العنف الذي يواجه بالعنف.
(7)
أكثر ما أعجبني في الرواية؛ البلاغة اللّغوية والأسلوب الانتقالي التخييلي للأحداث وان كانت تقوم على الاستباق ،لوقائع تاريخية لسنا مسؤولين عن صحتها لسرد مشبوه أشار اليه الراوي في المقدمة.
عندما تبدأ في قراءة الرواية تستعيد عوالم التاريخ المحكي (للحبوبات )وقلما تشعر أن اللغة المحكية هي لغة العصر الحالي ،استطاع الراوي استدعاء التّاريخ بكل ملامحه وهوامشه من خلال مقارباته التّنظيرية وقراءاته التّخيلية لشخصية السلطان وابنته الأميرة والعبد المخصي سندس في حبكة مثيرة وتكنيك سردي عالي باستخدام كل ميكانزيمات الزّمكان المروى عنه، حيث تعجّ الرواية بالأساطير والرّعب والموت والعواطف الحالمة والمخبأة والمشتعلة؛ حيث الذات الانسانية مُترعة بكل انواع الثنائيات ويلعب الموت دوراً بارزاً في اهتياج التاريخ المروي، والقصاص من أجل تأكيد الذات وارواء النفس المُتعطشة بالتشيؤ لكل ماهو إنساني واطعامها المقت.
الرواية تفتح نفاجات لقراءة تأويلية مُغايرة لتاريخنا الأفريقي الذي كُتب بيد المستعمر. يكشف بركة ساكن وجها اخراً للأدب عندما يعضد مقولة ان الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي وينمطه ويحرك دوافع التثوير لكل شئ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى